أخبار

مرفأ قراءة… «سيد الوقت» في ربوع الفنون والآداب

. واستكمالًا لمتعة الاستماع إلى كاتب كبير وأديب مبدع ذي تاريخ حقيقي بقيمة إبراهيم عبد المجيد الذي احتفلنا بعيد ميلاده الحادي والثمانين في ديسمبر الماضي، مد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية، وأمتعنا بإبداعاته ومطالعاته وجولاته التي لا نظير لها في ربوع الآداب والفنون والفكر والثقافات المختلفة، والكتب والشخصيات، نتوقف اليوم عند أحدث مكاشفاته واستبصاراته ومتابعاته الدقيقة المركزة في كتابه الأخير «سيد الوقت وكل وقت في الأدب والفن والجمال».

وهذا الكتاب الذي يقع في ما يزيد على 350 صفحة من القطع المتوسط، والصادر عن منشورات إيبيدي 2023، يكاد يشكل موسوعة مصغرة مكثفة مقطرة لكل ما استنشقه إبراهيم عبد المجيد من رحيق الكتابة والأدب والفن والسيرة، والكتابة عن شخصيات عرفها وأحبها أو قرأ لها وتأثر بها، أو أفاد منها على مستوى من المستويات، لكنه في النهاية عبَّر عن مشاعر الامتنان أو التقدير أو القراءة في هذه الصفحات التي أفردها لكل شخصية (في الغالب تكون من أصحاب الإبداع المعروفة على مستوى العالم العربي في نصف القرن الأخير)

يمثل كتاب «سيد الوقت» حلقة بالغة الأهمية في سلسلة الكتب التي عكف إبراهيم عبد المجيد على إخراجها في السنوات العشر الأخيرة، إنها كتبٌ بمثابة عطاءات سخية لكاتبٍ كبير تفرغ في السنوات الأخيرة بالكامل للقراءة والكتابة والإبداع ولا شيء آخر.

يمضي يومه، كما قال لي مرارا وحكى كثيرا، بين قراءة الكتب والأعمال الأدبية والفكرية وما يصله من إهداءات الأصدقاء، وهو كثير جدا من مصر وخارجها، وبين مشاهدة الأفلام وسماع الموسيقى ومتابعة الأخبار التي لا تجلب سوى الكآبة والحزن، ويكون لا مفر منها سوى بالعودة السريعة إلى مطالعة الكتب ومشاهدة الأفلام وسماع الموسيقى.. وهكذا!

وبموازاة الكتابة الإبداعية الخالصة التي تفصح عن نفسها بروايةٍ جديدة في العام الواحد أو كل عامين، لا يكف عبد المجيد عن الكتابة الدورية الأسبوعية في زاويته المحددة في الصحف والمواقع التي ينشر بها بانتظام، سواء في مصر أو خارجها، وهي تمثل “النافذة” أو “الواحة المشرقة” التي يطل بها عبد المجيد على قرائه ومحبيه ومتابعيه فيقدم لهم “خلاصات” و”إضاءات” و”قراءات” و”مراجعات” قيمة وثمينة، ومنها ما يمثل “شهادة ميلاد إبداعية” أو “شهادة ميلاد نقدية” لمن يكتب عنهم، ويقدمهم للرأي العام الثقافي، ودوائر التلقي والقراءة والاستجابة في العالم العربي كله.-

إنه الدور ذاته الذي كان يمارسه كبار الكتاب المبدعين من الأجيال السابقة، الرائدة النهضوية، طه حسين وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى وأحمد حسن الزيات، والعقاد.. وغيرهم.

وماذا كان يفعل العظيم يحيى حقي في مجلة (المجلة) التي رأس تحريرها في الستينيات وكانت منبرا لاكتشاف المواهب الطليعية المبدعة في القصة أو في الكتابة الدورية الأسبوعية والشهرية عن إبداعات وروايات وقصص ومسرحيات وكتب نقدية وعروض مسرحية وفنية، وكلنا وقعنا في غرام عناوين الكتب التي ضمت هذه الخلاصة الثمينة «عطر الأحباب»، و«أنشودة للبساطة»، و«الفراغ الشاغر».. إلخ.

أنا أرى أن إبراهيم عبد المجيد في سلسلة كتبه هذه التي اقتربت من العشر تقريبًا تلعب نفس الدور الذي لعبته كتب يحيى حقي التي ما زلنا نقرأها ونستكشف جمالها وقيمتها، إنها شهادة مبدع صاحب تاريخ، وتاريخ أدبي مواز للتواريخ الرسمية والسرديات المعتمدة! ففي كل مقال يكتبه أو فصل يدونه في واحد من هذه الكتب يصور عبد المجيد قطعة من الواقع والتاريخ سواء قصد إلى ذلك أم لم يقصد!

المنهج واحد في «سيد الوقت» (2023)، وفي «استراحة بين الكتب» (2022)، وفي «الأيام الحلوة فقط ـ سيرة مع الأدباء» (2020)، وفي «رسائل إلى لا أحد» (2022)، و«حاولت أن أنظر حولي وأمامي» (2022)، وفي كتابه الأخير (عن الدار المصرية اللبنانية) الصادر قبل أشهر قليلة..

فيها كلها وفي غيرها مما يشبهها، رغم اختلاف الموضوعات والقضايا التي يكتب عنها، والكتب التي يقرأها والشخصيات التي يعاينها، لكنك فيها جميعًا ستجد نفسك في رحلة روحية وعقلية مع أفكار وإبداع وقضايا فكرية وإنسانية، ومع إبراهيم عبد المجيد ذاته الذي يقول “أنا الذي عاصرت البلاد في فرحها ومحنتها، ورأيت أجيالا من المفكرين والكتاب والفنانين تركوا في فضاء الوطن راياتٍ من الجمال بما كتبوه أو أبدعوه في الرواية، والفن التشكيلي، والسينما، والمسرح، والصحافة. هؤلاء الذين عشت بهم مؤمنًا أن الوطن يستحق الحياة، ليس لأنه أرض أعيش عليها أو وُلِدتُ فيها فقط، لكن لأن في فضائه هذه العقول والأرواح”.

بهذا الحس الإنساني والوطني والجمالي (ولا أتردد أيضًا في وصفه بالأخلاقي لا بالمعنى الجامد أو المحافظ بل بمعنى وعي المسؤولية، وإدراك معنى تكريس القيمة) يقرأ إبراهيم عبد المجيد الكتب والروايات، ويشاهد اللوحات والأفلام والمسرحيات (إن وجدت) ويستمع إلى الموسيقى والسيمفونيات، والمقطوعات الموسيقية المتنوعة، والعروض الفنية الراقصة أو التعبيرية أو غيرها، إنه في النهاية يمارس فعل “المقاومة” النبيل في حدود القدرة والطاقة والجهد!

ولهذا فإنه سيبتدرنا في مقدمة كتابه «سيد الوقت» بهذا الدفاع الاستباقي:

“لا تقل لي -إذن- لماذا وصلنا إلى ما نحن فيه من تراجع في الاقتصاد والتعليم، وغيره، لأنك ستعرف ذلك وأنت تقرأ حين ترى أمامك عقولًا وأرواحًا عظيمة، فتدرك أن السياسة والساسة لا يرون ما حولهم من جمال، وهذه محنة البلاد. بل كثيرون من أصحاب الجمال عرفوا سجون الساسة وتعسفهم، لكني لا أريد أن أفسد الجمال بالحديث عن ذلك”.

إنه يعي تماما دوره ككاتب مهموم ومنخرط في هموم وقضايا وطنه وأمته، بل إنه من أكثر الناس رهافة وامتلاكا للترمومتر الذي يقيس به حرارة مجتمعه، ولديه ما يشبه المقياس الطبيعي لمدى سلامة أو اعتلال هذا المجتمع وهذه الأمة. وبالتالي فلا عجب أن يكون القسم الأول من الكتاب بأكمله مخصصا لقضية القضايا “من يحمي الإبداع؟” هذه القضية التي تتفرع عنها كل مشكلاتنا الأزلية والمزمنة حول الحرية وحق التعبير والتعددية ومواجهة الفكر بالفكر والإبداع بالإبداع، هذا القسم وحده يستحق قراءة خاصة وتأملية ودقيقة لأخطر ما مسه إبراهيم عبد المجيد من خطوط ومساحات شائكة وملتبسة بل هي في نظر البعض “خطرة جدا” أيضًا!

وهو على موقفه دائما، لا يخشى ولا يخاف، وهو لا يبخل لا بالنصح ولا بالرأي ولا بالإشارة ولا المشورة، حتى لو كان يعلم أنه لا يوجد من يسمع ولا يقبل بالنصيحة ولا يرضى بالنصح ولا يعترف بمبدأ “لا خاب من استشار”.. ما علينا فكلُّ هذا من آفات هذا الزمان، فلندع الآفة ولنبحث عن “الغافة” التي تظلل وتمنح الراحة والأمان!

يوجه إبراهيم عبد المجيد نداءه إلى قارئه الذي يخاطبه ويبحث عنه ويقدره يقول له تعال لندر ظهورنا إلى القبح القبيح والفوضى العارمة، تعال لنبحث عن الجمال والفن والإبداع، تعال لنجول معا بين رياض الفكر وبساتين الأدب وأروقة المشائين وأعمدة المجاورين وحلقات الدرس والبحث للمتحلقين بحثا عن المعرفة وطرحًا للسؤال واجتلابًا للأمل والتشبث به، وهل نملك غيره لنتشبث به بكل ما أوتينا من قوة؟!

إذن، وكما يقول «سيد الوقت» في ختام تقديمه “أتركك أفضل مع قضايا الإبداع ومن يحميه، وأمثلة من أهم مظاهره في المسرح والسينما والغناء والشعر والرواية، وما تشاء من جمال أشبه بأساطير في سفينة فوق بحر متلاطم الموج تمضي فيه السفينة في رحلة اغتراب بحثًا عن وطن. ستجد شيئًا من المراثي لعظماء عرفتهم، وشيئًا من الفرح والألم مما مر عليّ في السنوات الأخيرة، لكنه لا يشغل مساحة كبيرة. المساحة الأكبر هي للأرواح والأفكار العظيمة. كيف رأيتها؟ وكيف كانت أعظم أسباب استمراري في الحياة.. .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق