أدب
مَفْهومُ الأدَبِ – الأدَبُ اصْطِلاحًا (بيْنَ القَديمِ والحَديثِ)
مَفْهومُ الأدَبِ في العَصْرِ القَديمِ: كَلِمةُ (أدَب) مِنَ الكَلِماتِ الَّتي تَطوَّرَ مَدْلولُها عبْرَ العُصورِ؛ ففي العَصْرِ الجاهِليِّ وعَصْرِ صدْرِ الإسلامِ اقْتَصرَ مَعنى كَلِمةِ “الأدَب” على ما يُرادُ بها مِن المَعنى اللُّغويِّ الدَّائِرِ بيْنَ الدَّعوةِ إلى الطَّعامِ، وبيْنَ تَهْذيبِ النَّفْسِ والتَّثْقيفِ والتَّحلِّي بمَكارِمِ الأخْلاقِ، وكان الجانِبُ المَعنويُّ للكَلِمةِ أكْثَرَ ذُيوعًا وانْتِشارًا، وهو ما وَرَدَ على لِسانِ ابنِ مَسْعودٍ كما في الأثَرِ السَّابِقِ آنِفًا .
وأمَّا العَصْرُ الأُمَويُّ فقدْ عرَفَ لَونًا مِن التَّطوُّرِ الدَّلاليِّ لكَلِمةِ “الأدَب” حينَ صارَ الخُلَفاءُ على عِنايةٍ بتَربيةِ أولادِهم، وإعْدادِهم لوِلايةِ العَهْدِ، وتَولِّي الخِلافةِ، فعَهِدوا إلى أكابِرِ العُلَماءِ في عَهْدِهم ليَقوموا بتَربيةِ أبْنائِهم، فيُعَلِّموهم أُصولَ العُلومِ الشَّرعيَّةِ واللُّغويَّةِ، ويُطَبِّعوهم على تَمَرُّسِ السِّياسةِ وقِيادةِ النَّاسِ، وإرْشادِهم إلى ما يَليقُ وما لا يَليقُ. وقد شاعت تَسْميةُ هؤلاء العُلَماءِ بالمُؤدِّبينَ، فكان عامِرٌ الشَّعْبيُّ مُؤدِّبًا لأبْناءِ عبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ، وكان عبْدُ الصَّمَدِ بنُ عبْدِ الأعلى مُؤدِّبًا للوَليدِ بنِ عبْدِ العَزيزِ، وكان الجَعْدُ بنُ دِرهَمٍ مُؤدِّبًا لمَروانَ بنِ مُحمَّدٍ .
وقد شاع اسْتِعمالُ كَلِمةِ الأدَبِ بالمَعنى الأخْلاقيِّ في عَصْرِ صدْرِ الإسلامِ وزَمانِ بَني أُميَّةَ والعَباسيِّينَ، حتَّى صدَّرَ المُصنِّفونَ “الأدَب” عُنوانًا لكُتُبِهم أو لِبعضِ أبوابِ كُتُبِهم الَّتي تَتَضمَّنُ صِلةَ الرَّحِمِ، وبِرَّ الوالِدَينِ، ورَحْمةَ النَّاسِ، والتَّصدُّقَ على المَساكينِ، والرِّفقَ، وحِفْظَ حقِّ الجارِ، ونَحْوَ ذلك، كما فَعَلَ البُخاريُّ في كِتابِه “الأدَب المُفرَد”، وفي تَرْجَمةِ كِتابِ “الأدَب” في صَحيحِه، ومُسلِمٌ في تَرْجَمةِ كِتابِ “الآداب”، وكِتابِ “البِرِّ والصِّلةِ والآدابِ” مِن صَحيحِه أيضًا، وكذا صَنَعَ أبو داودَ والتِّرْمِذيُّ وابنُ ماجه وغيْرُهم.
إلَّا أنَّه معَ بدايةِ العَصْرِ العَبَّاسيِّ تَطوَّرَ مُصْطلَحُ الأدَبِ تَطوُّرًا مَلْحوظًا؛ إذ كانَ مِن نَتيجةِ النَّهضةِ العِلميَّةِ والثَّقافيَّةِ آنَذاك أن أصْبَحَ الأدَبُ عَلَمًا على لَونٍ مِن ألوانِ الكَلامِ والكِتابةِ، وعِلمًا مِن عُلومِها، وهو كلُّ كَلامٍ بَليغٍ مِن الشِّعرِ والنَّثرِ، وما اتَّصلَ بهما مِن الشَّرحِ والنَّقْدِ والتَّعْليقِ ونَحْوِه .
ولِهذا ذَكَرَ ابنُ خَلْدونَ في تَعْريفِ الأدَبِ: (هذا العِلمُ لا مَوْضوعَ له يَنظُرُ في إثْباتِ عَوارِضِه أو نَفْيِها، وإنَّما المَقْصودُ مِنه عنْدَ أهْلِ اللِّسانِ ثَمَرتُه، وهي الإجادةُ في فَنَّيِ المَنْظومِ والمَنْثورِ على أساليبِ العَربِ ومَناحيهم، فيَجْمعونَ لذلِك مِن كَلامِ العَربِ ما عَساه تَحصُلُ به الكَلِمةُ مِن شِعرٍ عالي الطَّبَقةِ، وسَجْعٍ مُتساوٍ في الإجادةِ، ومَسائِلَ مِن اللُّغةِ والنَّحْوِ مَبْثوثةٍ في أثْناءِ ذلك مُتَفرِّقةٍ، يَستقرِئُ مِنها النَّاظِرُ في الغالِبِ مُعظَمَ قَوانينِ العَربيَّةِ، معَ ذِكْرِ بعضٍ مِن أيَّامِ العَربِ، يُفهَمُ به ما يَقَعُ في أشْعارِهم مِنها، وكذلك ذِكْرُ المُهمِّ مِن الأنْسابِ الشَّهيرةِ والأخْبارِ العامَّةِ. والمَقْصودُ بذلك كلِّه ألَّا يَخْفى على النَّاظِرِ فيه شيءٌ مِن كَلامِ العَربِ وأساليبِهم ومَناحي بَلاغتِهم إذا تَصفَّحَه؛ لأنَّه لا تَحصُلُ المَلَكةُ مِن حِفْظِه إلَّا بعْدَ فَهْمِه، فيُحتاجُ إلى تَقْديمِ جَميعِ ما يَتوقَّفُ عليه فَهْمُه، ثُمَّ إنَّهم إذا أرادوا حَدَّ هذا الفَنِّ قالوا: “الأدَبُ هو حِفْظُ أشْعارِ العَربِ وأخْبارِها، والأخْذُ مِن كلِّ عِلمٍ بطَرَفٍ”؛ يُريدون: مِن عُلومِ اللِّسانِ أو العُلومِ الشَّرعيَّةِ مِن حيثُ مُتونُها فقط، وهي القُرآنُ والحَديثُ؛ إذ لا مَدخَلَ لغيْرِ ذلك مِن العُلومِ في كَلامِ العَربِ إلَّا ما ذهَبَ إليه المُتأخِّرونَ عنْدَ كَلَفِهم بصِناعةِ البَديعِ مِن التَّوريةِ في أشْعارِهم، وتَرَسُّلِهم بالاصْطِلاحاتِ العِلميَّةِ، فاحتاجَ صاحِبُ هذا الفَنِّ حينَئذٍ إلى مَعْرفةِ اصْطِلاحاتِ العُلومِ؛ ليكونَ قائِمًا على فَهْمِها) .
فنَجِدُ مَثَلًا أبا العبَّاسِ المُبَرِّدَ إمامَ اللُّغةِ المُتوفَّى سَنةَ 258ه يُؤلِّفُ كِتابًا يُسمِّيه: “الكامِلَ في اللُّغةِ والأدَبِ”، يقولُ في مُقدِّمتِه: (هذا كِتابٌ ألَّفْناه، يَجمَعُ ضُروبًا مِن الآدابِ ما بيْنَ كَلامٍ مَنْثورٍ، وشِعْرٍ مَوْصوفٍ، ومَثَلٍ سائِرٍ، ومَوْعظةٍ بالِغةٍ، واخْتِيارٍ مِن خُطبةٍ شَريفةٍ، ورِسالةٍ بَليغةٍ…) ، وغيْرُ ذلك الكَثيرُ.
بل إنَّ الأمْرَ قدِ استَتبَّ بعْدَ ذلك واشتَهرَتْ تَسْميةُ الأعْمالِ الشِّعريَّةِ والنَّثريَّةِ بالأدَبِ، حتَّى قال المُتَنبِّي مُفاخِرًا:
أنا الَّذي نظَرَ الأعْمى إلى أدَبي
وأَسمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بِهِ صَمَمُ .