مقالات وبحوث

بأيّ لغةٍ يُكتب الأدب؟

بقلم: د. أميرة غنيم

كان يُعتقد إلى وقتٍ قريب أنّ للأدب لغةً واحدة توصف بأنّها اللّغة الأدبيّة. وفي الواقع، يعسر الإلمام بكلّ ما قيل في خصوص هذه اللّغة، لكنّ الأفكار المسبقة في شأنها كثيرة، ومنها أنّها لغة يُصرَّف فيها الكلام على غير التصريف العاديّ، وتستمدّ جماليّتها الرفيعة من سموّها عن التعابير اليوميّة التي يتداولها الناس في البيوت والأسواق، وتتميّز بالجزالة والفخامة وعلوّ الكعب معجماً وتركيباً وبلاغة. غير أنّ ظهور نمطٍ جديدٍ من الكتابة الأدبيّة يمزج الفصيح بالعاميّ، أو يقتصر حصراً على العاميّة، نبَّهَ إلى أنّ علاقة الأدب باللّغة التي يُكتب بها في حاجةٍ إلى مزيدٍ من التدبّر، ولاسيّما وقد شاعت في أسواق القراءة مؤلّفاتٌ ذات حظوة لدى نسبةٍ مُحترمة من القرّاء، على الرّغم من أنّها مكتوبة باللّسان اليوميّ الدّارج، أو ربّما بسببٍ من ذلك على وجه التحديد.

تُثير هذه المؤلّفات، ولاسيّما الروائيّة منها، جدلاً مستمرّاً في الوسط الثقافيّ. ومأتى الجدل الحَرَجُ الذي تجده فئةٌ من القرّاء من الجمْع بين أدب/ عاميّة، إذ غالباً ما يُستشعر التنافُر بين هذيْن المفهومَيْن كأنّهما لا يحضران في الضمير الجمعيّ إلّا كحضورِ المُتضادّات، مُتنافرَيْن مُتصادمَيْن يُقصي أحدهما الآخر.

ولا شكّ في أنّ لتمثّلاتنا المدرسيّة حول الأدب من جهة، واللّغة من جهة أخرى، دَوراً في تثبيت هذا الحَرَجِ وتأبيده. ولهذا السبب، نعتقد أنّ كلّ نقاش حول علاقة الأدب باللّغة ينبغي أن يَنطلق من رفْع الأوهام الشائعة بخصوص كليهما. فمن اللّازم أن نتّفق بدءاً حول ماهيّة الأدب، فهل إنّ كلّ ما يُطبع في المطابع ويَخرج إلى السوق في محمل ورقيّ تحت مسمّى رواية أو شعر هو حقّاً من الأدب؟ وكيف نُحدِّد المقاييس المعياريّة التي يُقيَّم بها العمل الأدبيّ؟ ثمّ ما هي وظيفة الأدب؟ وما مجاله الحيويّ؟ هل يتحرّك الأدب في الفضاء الشخصيّ أم في الفضاء الكونيّ؟ ما دوره الحضاريّ؟ وأيّ مكانة تكون له في التاريخ؟

هل الدّارجات تُضعِف العربيّة أم تُقوّيها؟

إذا استطاعَ المختصّون في عِلم الأدب أن يَضبطوا أجوبةً نهائيّة عن هذه الأسئلة كان علينا، من منطلق الاختصاص اللّسانيّ، أن نلتفت بدَورنا إلى اللّغة تعريفاً وتصنيفاً؛ فهل اللّغة هي اللّغة الرسميّة فحسب؟ هل هي اللّغة المُشترَكة التي تتكلّم بها الجماعاتُ المليونيّة أم هي أيضاً الدّارجات المتفرّعة عنها والخاصّة بالمجموعات اللّسانيّة الصغرى؟ وما القيمة العلميّة للتمييزات الشعبيّة بين عربيّةٍ فصحى وعربيّة فصيحة ودارجة وعاميّة؟ وهل يفضُل أيٌّ من هذه الأصناف سائرها؟

لا تنفكّ اللّسانيّات تُذكِّر بأنّ التعدّد في دارجات لسانٍ ما علامةٌ صحيّة، ودليلٌ على قوّة ذلك اللّسان وانتشاره، وميزةٌ تؤهّله لأن يكون حاضراً من ضمن الألسنة القليلة التي ستنجو من الانقراض في الألفيّة المُقبلة. ولذلك، فإنّ الخطابات التي تدين استعمال الدّارجات المحليّة بدعوى أنّها خطرٌ على العربيّة المُشترَكة (المُسمّاة شعبيّاً فصيحة) هي خطاباتٌ انفعاليّة يعوزها الاحتكام إلى منطق العِلم. كما أنّ مَن يَقرن بين الدّارجة والفوضى والسوقيّة يَغفل عن أنّ للدارجة قواعد نحويّة وصرفيّة، وأنّ العربيّةَ المُشترَكة لا تَفضِلُها بشيء عدا بمقدار الانتشار. من هذه الناحية تحديداً يُمكن أن تُطرح علاقة اللّغة بالأدب من جهةِ مجاله الحيويّ ووظيفته الحضاريّة؛ فإذا كانت الدّارجةُ فاعلةً في مجالٍ جغراسياسيّ ضيّق نسبيّاً، فإنّ للأدب مجالاً أرحب كلّما كان منتوجه ذا أبعادٍ إنسانيّة ومرشّحاً للخلود.

طُرحت هذه المسألة باكراً في الأدب العربيّ، أبكر من منتصف القرن التّاسع عشر وترجمةِ مارون النقّاش مسرحيّة موليير إلى الدّارجة اللّبنانيّة، وأبعد من منتصف القرن العشرين وحركة مجلّة “شعر” ويوسف الخال وأنسي الحاج وسعيد عقل وأحمد فؤاد نجم، وأبعد من حركة الطليعة في تونس ومن سمير العيّادي وصالح القرمادي، ومن فترة الثلاثينيّات وجماعة تحت السور وخريّف والدوعاجيّ وبيرم التونسيّ… فقَبل أكثر من ألف عامٍ كَتَبَ الجاحظ في “البخلاء” “إن وجدتم في هذا الكتاب لحناً أو كلاماً غير معرَّب ولفظاً معدولاً عن جهته فاعلموا أنّنا إنّما تَركنا ذلك لأنّ الإعراب يُبغِّض هذا الباب ويُخرِجه من حدّه”، فاعتذرَ عن استعمال الكلام العربيّ الدّارج على الألسن وعياً منه بتعارض الوظيفة الأساسيّة لنصّه، وهي الإضحاك من البخيل، مع جديّة العربيّة المُشترَكة الجارية على ألسنة الخاصّة.

وخلافاً لما قد يذهب للظنّ ليست مسألة العلاقة بين الأدب والعاميّة خاصّة بالأدب المكتوب بالعربيّة ودارجاتها. فمنذ القرن التّاسع عشر، أسَّس فريدريك ميسترال Frédéric Mistral، الكاتب والقاموسيّ المُتحصّل في العام 1904 على جائزة نوبل للآداب، جمعيّةً أدبيّة تحت اسم Félibrige، وهي جمعيّة تُعنى بالحفاظ على الأدب المكتوب بالدّارجات الفرنسيّة وتخصيصاً بدارجات langue d’oc، وتُشجِّع عليه. أمّا الشاعر الفرنسيّ المعروف بول فيرلين Paul Verlaine فقد عُرف عنه اعتزازه باستعمال دارجة Le Patois وتفنّنه في ذلك. وما زالت تنعقد إلى اليوم مؤتمراتٌ دوليّة سنويّة تحت لواء مؤسّسةٍ دوليّة للأدب المكتوب بالدّارجات الأليمانيّة Alémanique تَجمع كتّاباً من ألمانيا والنمسا وسويسرا وفرنسا وإيطاليا يُوجِّههم هدفٌ واحد هو الحفاظ على الأدب المكتوب بالدّارجات، بوصفه تراثاً لا ماديّاً من اللّازم أن يُسهم الأدباء في صونه من الاندثار.

كيف تُستخدَم الدّارجات في الرواية العربيّة؟

في العموم، يُمكننا أن نُميّز في الرواية مثلاً بين ثلاث نزعاتٍ كبرى متعلّقة باللّغة المُستعمَلة في المُمارسة الأدبيّة: نزعتان حدّيّتان ترفض أولاهما أن تَصِلَ إلى الأدب رائحةُ المعجم العاميّ، بينما تَقتصر الثانيةُ على العاميّة بالكليّة وتقوم على العدول المُطلَق عن اللّسان المُشترَك. أمّا النزعة الثالثة، فوسطيّة، تُحاوِل إيجادَ صيغٍ تعبيريّة توفِّق بين حاجة الأدب إلى الانتشار من ناحية، بما يفرضه ذلك من التزامٍ بالعربيّة المُشترَكة، وحاجته، من ناحيةٍ أخرى، إلى التصبّغ بالروح المحليّة التي تقوّيها العاميّة.

والطريف أنّ المُقارَنة بين النزعتَيْن الحدّيّتَيْن تُنبّهنا إلى أنّهما تتنازعان حجّتَيْن رئيسيّتَيْن وتشتركان فيهما اشتراكاً يَستند إلى المُغالطات نفسها، ولكنْ في اتّجاهَيْن مُختلفيْن؛ فالمُدافعون عن استعمال الدارجة في الأدب يُعلّلون اختيارهم بـ:

(1) متطلّبات الحفاظ على الهويّة وما تفرضه من اعتزازٍ بالخصوصيّة المحليّة وإبرازٍ للشخصيّة الوطنيّة.

و(2) بما في الدّارجة من طاقةٍ تعبيريّة تفتقر إليها العربيّة المُشترَكة التي توصف بأنّها لغةٌ ذات تكلُّفٍ وبعيدة عن حرارة الشعور وصدقه.

أمّا المعارضون لاستعمال الدارجة في الأدب فيقدّمون أيضاً:

(1) مقتضيات الهويّة والاعتزاز بالقوميّة ومُحارَبة النّزعات الانفصاليّة واجتناب كلّ ما فيه انحصار وتضييق وانطواء على الذّات.

و(2) بما في العربيّة الفصيحة من طاقةٍ تعبيريّة تَفتقر إليها الدّارجة التي تُنعت من هذا المنظور بكونها لغةً سوقيّة فوضويّة ومُفتقِرة إلى البلاغة.

وقد بَيَّنّا المُغالطات التي يقوم عليها التصوّران من جهةِ المُفاضلة بين اللّسان المُشترَك ودارجاته المحليّة، ولا نظنّ أنّنا نقدِّم جديداً إذا ذكّرنا بالمبدأ اللّسانيّ الذي صاغه فيلسوف اللّغة جون سيرل صياغةً بديعة ومفاده أنّ “كلّ ما يُمكن أن يُعنى يُمكن أن يُقال”. يُبرز هذا المبدأُ البُعدَ الفلكلوريَّ في العبارات من قبيل “تعجز اللّغة عن التعبير/ هذا ممّا تعجز اللّغة عن وصفه…إلخ..”. ذلك أنّ اللّغة، سواء كانت فصيحة أم عاميّة، مُشترَكة أم دارجة، بعيدة عن العجز كلّ البُعد، وإن كان هناك من عجزٍ فهو من المتكلّم لا غَير. وعليه، فإنّه لا مُفاضَلة بين الطّاقة التعبيريّة للعربيّة المُشترَكة والطّاقة التعبيريّة للدارجة التونسيّة مثلاً، وإنّما المُفاضَلة بين مَن يُحسن التأدية بإحداهما ومَن لا يُحسن ذلك.

أمّا مسألة الهويّة فمحسومة، لأنّ الدّفاع عن الشخصيّة الوطنيّة على سبيل المثال، ليس مسألةً تعبيريّة متعلّقة بقناة التواصُل وإنّما هي جملة من الموضوعات المطروقة والعوالم المَبنيَّة سرديّاً أو شعريّاً. وما يصدق ردّاً على أصحاب إحدى النَّزعتَيْن يبقى صالحاً أيضا للردّ على أصحاب النّزعة المُقابلة.

شهادة من التجربة الشخصيّة

ومن خلال تجربتي روائيّةً ولسانيّةً في الوقت نفسه، يُمكنني أن ألخّص موقفي من الجدل القائم في هذه النقاط الموجزة:

أوّلاً: كلّ حطٍّ من قيمة اللّسان الدّارج مرفوض علميّاً، وهو مُنبئ عن جهلٍ بأساسيّات قيام الألسنة وبأساسيّات دَورها الثقافيّ والحضاريّ.

ثانياً: لا سبيل للحفاظ على العربيّة لساناً قويّاً وفاعلاً في مجاله الحيويّ إلّا بالحفاظِ على دارجاته وصَوْنِها من الاندثار.

ثالثاً: لا تفاضُل بين “العاميّة” و”العربيّة”، فالأولى دارجة محليّة والثانية دارجة مُشترَكة، وكلتاهما فصيحة، وكلتاهما بليغة شريطة أن يكون المتكلّم بهما فصيحاً وبليغاً.

رابعاً: تُعتبر الدارجة المحليّة قناةً لتطوير العربيّة المُشترَكة وإغنائها وتوسيعها وتجديدها وبثّ دمٍ جديدٍ فيها. وإذا كانت الصناعةُ القاموسيّةُ العربيّة لا تواكب الثراء الذي يعرفه اللّسانُ بفضل دارجاته وقابليّتها للاقتراض والنَّحت وغيرها من الوسائل المعجميّة الكفيلة بتجديد المعجم وتطويره، فإنّ على كُتّاب العربيّة مسؤوليّة تطوير لسانهم وجعْله مواكباً لإيقاع العصر ومتطلّباته الثقافيّة والجماليّة.

وقد حاولتُ في كتاباتي الروائيّة أن أُترجِمَ مواقفي اللّسانيّة هذه عمليّاً في اللّغة التي أكتب بها نصوصي. من ذلك أنّي التزمتُ بالعربيّة المُشترَكة قناةً للتعبير إيماناً منّي بمسؤوليّة الكاتب في إثراء الإسهام الحضاريّ العربيّ في الثقافة الكونيّة. فلا قيمة للمرء خارج أمّته، ومَن يُعرف عالميّاً خارج لسانه لن يَندرج أبداً في ثقافته. لقد فعلَ الفرسُ المستحيل كي يُرجعوا إليهم سيبويه وابن سينا، ولكنّهما إذ كتبا بالعربيّة صارا ابنَيْ الثقافة العربيّة، ولستُ أريد لنفسي موقعاً عدا موقع المشدود إلى عروته، وعُروتي هي اللّغة العربيّة.

تتضمّن العربيّة مستويات، أحاول التنويع بينها تماشياً مع أنماط العوالم وانسجاماً مع خصائص الشخصيّات، وأجد متعةً كبيرة في حقْنِ النصّ بشيءٍ من الدّارجة التونسيّة كلّما بدتْ لي الدّارجة أقرب إلى الغرض وأوفى بالقصد.

وغالباً ما يَقع تطعيم النصّ بالعاميّة على صورةٍ عفويّة، ولكنّ هذا التطعيم يتّخذ ثلاثة سُبل هي التالية:

إدخال مفردات من الدّارجة في المَتن السرديّ مع شرْحها في الهامش حرصاً على وصول معناها إلى القارئ العربيّ خارج المجال المحليّ. من ذلك أسماء الملابس التقليديّة التونسيّة (شاشيّة، كبّوس، برنوس، بلغة، كشطة…إلخ)، وأسماء الآلات (فاشكة، قطّار، برّاد، كانون…)

إدخال مفردات قليلة الاستعمال في العربيّة المُشترَكة وشائعة الاستعمال في الدّارجة المحليّة مع تعمُّد عدم شرحها في هوامش ليطلبها القارئ العربيّ في مَواضِعِها من قواميس اللّغة العربيّة (غالط، مكبوبة السعد، دنقس رأسه…إلخ).

استعمال الدّارجة في بعض مواطن الحوار، ولاسيّما الحوار الجاري على ألسنة العجائز، من دون شرحٍ للمفردات لدفْع القارئ إلى مُحاولة الفَهْم مُستعيناً بالسياق.

تقريب التركيب الفصيح إلى التركيب العاميّ من دون الإزراء بالقواعد النحويّة، ويقع ذلك بالتخفيف من حروف مواضع الصدر ممّا يُمكن الاستدلال عليه بمُقتضيات المقام، بحيث يكون التركيب فصيحاً سليماً، لكنّ روحه دارجة (مثال: يكون أن تخرج بلا عشاء؟)

كتابة تعابير يُمكن أن تُقرأ بالوجهَيْن، فالتونسيّ يقرأها باللّهجة المَحكيّة التونسيّة والقارئ العربيّ يقرأها بقواعد العربيّة المُشترَكة (مثال: وربّي، يكذب).

وفي العموم، أحسب أنّي أحاول أن أكتب بعربيّةٍ مُعاصِرة حديثة، قريبة العبارة، سهلة المركب، تُحبِّب إلى القارئ لغتَه ولا تُنفِّره منها، وتُراهِن على أدبٍ يعيش بعد صاحبه ويَنتشر خارج رقعته ويطير إلى رحاب الثقافة الإنسانيّة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق