مقالات وبحوث
هنا إذاعة صوت العرب من لندن
..هنا إذاعة صوت العرب من لندن
بقلم : نائب التحرير الأستاذ علي المسعودي
أخيرا أعود إلى لندن بعد غياب 25 عاما..
لم يتغير شيء..
لم يتغيّر سوي ..
لم تكبر لندن كثيراً فهي منذ عرفناها وقبل أن نعرفها قد بلغت سن العجائز..
هذا كامبرلاند الذي سكنته وأنا في عز الشباب في وقت كانت فيه لندن مثلي بهية ومشرقة مثل خدود ديانا وهي تعيش في وفاق تام مع تشارلز..
وتلك هي الهايد بارك كما تركتها متألقة أشجارها مازالت تستمع باهتمام لآهات الجالسين في ظلالها..
هذه المدينة العجوز التي أسرت العالم مازالت بذات الطعم واللون والرائحة ” أجمل مدينة عربية” كما قال نزار..
لكني الآن أقل شغفاً وأكثر زهدا في الإكتشاف لاشيء سوى تتبع أحوال الأدباء العرب الذين سكنوا هذه المدينة هرباً من أوطانهم، وجمعتني مع بعضهم حوارات أدبية صحفية أطمع أن تعيد لي شيئاً من شغف الحب الذي خبأ في داخلي زرت سعاد الصباح في منزلها الريفي الجميل في (ريدنق)..
تأملت (لندن آي) التي تبدو في السماء مثل أرجوحة وسط غيمة..
ثم وقفت على الجسر الشهير في مدينة الضباب أتأمل نهر التايمز الذي كتب عنه أكبر الأدباء أدباء العرب الذين حملوا غربتهم وأحزانهم ودخلوا الى سحر شكسبير..
وأثرياء العرب الذين ركبوا يخوتهم وجاءوا إلى سحر ديانا..
والسياسيين العرب الذين حملوا ملفاتهم لتوقّعها الملكة إليزابيث..
وظننت أن لندن ستسرق قلبي مثلما سرقت قلب سعاد الصباح ونزار قباني وغازي القصيبي أو أن تخبئني مثلما خبّأت أحمد مطر..
وأحاول أن أكون حذرا من طيف أي جميلة احترفت خطف الأحاسيس..
هذه لندن ياصديق الشعر.. غواية الحب والحرب.. ومازالت عالقة بأطراف شوارعها ذكرى عجوز تجاوزت التسعين تربعت على عرش خمسين بلد في العالم..
استسلم لها ياغريب.. لندن ستسرقك حتماً.. مثلما سرقت قبلك قلوب غادة السمان، وسعدي يوسف وادوارد سعيد..
أغمضت عيني بانتظار نشوة السرقة العاطفية..
لكنها بدلا من أن تسرق قلبي، سرقت جيبي!
ما إن التقطت صورة في منتصف الجسر وعدّلت شنطتي (الكروس) على كتفي.. حتى وجدتها فارغة! لقد اختفت منها محفظتي بكل مافيها من هويات وبطاقات ومصروف. تذكرت أنك أيتها المدينة الرمادية العريقة.. تسرقين التاريخ والقلوب والجيوب..
وتذكرت صوت صديقي القديم وهو يتصل يخبرني أنه سيزورني في الفندق مع محام متخصص وخبير سيشرح له طريقة خاصة في الحصول على ميزة إقامة رجال الأعمال..
لندن لم تخطف قلبي ولم تعطني هوية.. بل سرقت هويتي..!
ما أصعب سرقة بطاقة رجل خاض معركة طويلة ودامية مع الحب ومع الهوية.. ومع الوطن!