يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرم/ ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوم
وتأخروا عن كل ما يقضي بأن تتقدموا/ ودعوا التفهم جانباً فالخير ألا تفهموا
وتثبتوا في جهلكم فالشر أن تتعلموا/ أما السياسة فاتركوا أبداً وإلا تندموا
إن السياسة سرها لو تعلمون مطلسم/ وإذا أفضتم في المباح من الحديث فجمجموا
والعدل لا تتوسموا والظلم لا تتجهموا/ من شاء منكم أن يعيـش اليوم وهو مكرم
فليمس لا سمع ولا بصر لديه ولا فم/ لا يستحق كرامة إلا الأصم الأبكم
ودعوا السعادة إنما هي في الحياة توهم/ فالعيش وهو منعم كالعيش وهو مذمم
فارضوا بحكم الدهر مهـما كان فيه تحكم/ وإذا ظلمتم فاضحكوا طرباً ولا تتظلموا
وإذا أهنتم فاشكروا وإذا لطمتم فابسموا/ إن قيل: هذا شهدكم مر، فقولوا: علقم
أو قيل: إن نهاركم ليل، فقولوا: مظلم/ أو قيل: إن ثمادكم سيل، فقولوا: مفعم
أو قيل: إن بلادكم يا قوم سوف تقسم/ فتحمدوا، وتشكروا وترنحوا، وترنموا
قصيدة “الشاعر المجهول”
تعتبر هذه القصيدة، وعنوانها الذي عرفت به هو “الحرية في سياسة المستعمرين”، عادة، واحدة من أجمل وأقوى قصائد الشاعر العراقي معروف الرصافي. فمَن معروف الرصافي؟ فلنبدأ هنا على الأقل بقراءة هذا التعريف المنقول عن صحيفة مهجرية: “إن معروف الرصافي توقيع مستعار لشاعر عربي عظيم موطنه غير بغداد التي يتظاهر بالانتساب إليها على صفحات الجرائد، إذ يستحيل أن ينبغ في العراق المتأخر في أدبه وعلومه هذه الأيام، وفي استتباب الاستبداد الحميدي وتضييق الخناق على المفكرين الأحرار، مثل هذا الشاعر الحر الذي يختلف في جرأته وسعة أفقه، فضلاً عن ديباجته البديعة”. هذا الكلام الذي كتبه الصحافي اللبناني نعوم لبكي في صحيفة “المناظر” التي كان يصدرها في نيويورك، أثار، يومها غضب المفكر محمد كرد علي، بحسبما يروي لنا الكاتب العراقي نجدت فتحي صفوت في كتاب وضعه عن أعمال الرصافي المجهولة، فانبرى- أي كرد علي- للرد على لبكي في سلسلة مقالات نشرها في جريدة “المؤيد” القاهرية، وكانت غاية كرد علي من ردوده أن يثبت أن معروف الرصافي هو اسم حقيقي لشاعر بغدادي معاصر
حس وطني مثير للحيرة
في ذلك الحين كان الرصافي لا يزال في بداياته، ولكن من الواضح أن تلك البدايات كانت من القوة والزخم بحيث حيرت المتابعين أمام شعر ناضج يحمل توقيع “شخص مجهول”. وكان مما زاد الحيرة أن قصائد الرصافي امتلأت بالحس الوطني وكانت منها “تنبعث نفحات الحرية ويتطاير من جوانبها شرار الوطنية” بحسب تعبير الأخطل الصغير. والرصافي الذي فاجأ الأوساط الأدبية العربية إلى هذا الحد كان ولد ببغداد في عام 1875 وتلقى علومه الابتدائية فيها كواحد من حواري العالم الشيخ محمود شكري الألوسي الذي لفته ذكاء تلميذه ووطنيته وراح يوجهه لكتابة الشعر على النمط الكلاسيكي. وبالفعل ما إن أصبح معروف الرصافي في سن الشباب حتى راح يكتب الشعر، بكثرة وينشره في العديد من الصحف العربية. وكانت تلك المرحلة هي التي اكتشفه فيها المتابعون العرب، واكتشفوا أن بإمكان العراق، حقاً، أن يطلع شعراء كباراً، وهو ما لم يكف العراق عن فعله منذ ذلك الحين، بحيث كان الرصافي رائداً حقيقياً لحداثة شعرية تواصلت منذ أيامه لتصل إلى ذروتها، لاحقاً، مع بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وغيرهم مروراً طبعاً بمحمد مهدي الجواهري ومحمد صالح بحر العلوم ناهيك بخاتمة كبار الكلاسيكيين أحمد الصافي النجفي
الصحافة والشعر: المعركة نفسها
منذ البداية، ارتبط شعر الرصافي بمواقفه الوطنية، فهو الذي وقف مؤيداً بحماس لإعلان الدستور الثاني في عام 1908… وبالتوازي مع كتابته الشعر راح الرصافي يكتب المقالات الصحافية مصراً على أن يكون تلاقياً تاماً بين نفسه الوطني الجريء كشاعر بل كذلك كباحث في تاريخ الدين من خلال كتابه “كتاب الشخصية المحمدية” الذي أثار في وجهه كثيراً من العواصف وتسبب له في مطاردات ورقابات قلصت من اهتمام الجمهور بشعره كم من قدرته على التأثير على هذا الجمهور، وفي هذا السياق لا بد أن نعود هنا إلى الإشارة إلى كتاباته الصحافية التي وصلت في جرأتها إلى حد مطالبته بخلع السلطان عبد الحميد فور إعلان الدستور. ولكن الخيبة التي أصابت كافة المثقفين العرب إثر التحول التركي الذي طرأ على رجال جمعية الاتحاد والترقي بعد أن استتبت لهم السلطة، أصابت أيضاً معروف الرصافي الذي توجه، بعد فترة أمضاها في إسطنبول، إلى بيروت حزيناً خائب السعي فإذا بالاستقبال الذي يخص به هناك يثلج قلبه ويبعث الأمل في نفسه، خصوصاً أن بيروت أصدرت له في ذلك الحين ديوانه الأول، وأسهمت – كما أسهمت بالنسبة إلى كثر من الشعراء العرب الآخرين- في دفعه إلى الصف الأول بين أقطاب الحداثة الشعرية العربية. وبعد بيروت وبغداد، عاد الرصافي مرة أخرى إلى إسطنبول، لكن عودته هذه المرة لم تسفر عن خيبة، بل إنه سرعان ما انخرط في الحياة الفكرية والشعرية لعاصمة الخلافة، وراح يدرس اللغة العربية، إلى جانب كتابته المقالات السياسية، بعد أن وجد نفسه يتصالح مع جمعية الاتحاد والترقي إلى درجة أن ترشحه الجمعية ليصبح نائباً عن منطقة المنتفك في مجلس “المبعوثان”. وهو ابتداء من تلك اللحظة بدأ يتخذ من المواقف ما تبين من خلالها تأييده الدولة العثمانية، حتى ضد الإصلاحيين العرب الذين وجد أسباباً كثيرة في برامجهم تدعوه لانتقادهم، لا سيما حين عقدوا مؤتمرهم في باريس، حيث كان يعي كما راح يقول بنفسه، “المطامع الفرنسية في المنطقة العربية” ويدرك أن باريس “لا تساير الأحرار العرب إلا قصد إثارة الفرقة بينهم وبين الدولة العثمانية”
سنوات حبلى بالتناقضات
ولقد جره ذلك الوعي إلى الوقوف ضد الثورة العربية مدافعاً عن الدولة العثمانية فيما بعد. ومن هنا يبدو من المنطقي أن نقول مع ناقدي الرصافي، إنه قد عاش بعد ذلك يتحسر على الدولة العثمانية، ما أثار عليه حنق الملك فيصل ومعظم السياسيين العرب، وجعله بعيداً عن الحكم حتى كان عام 1928 حين نجح أصدقاء له في مصالحته مع الملك فيصل فرشح لعضوية مجلس النواب العراقي ليصبح نائباً عن بغداد ثم عن لواء الدليم. ولكن سرعان ما أصابت الرصافي صدمة قوية بانتحار صديقه رئيس الحكومة عبد المحسن السعدون الذي كان من صالحه من الملك فيصل. غير أن ذلك لم يدفعه إلى اليأس بل واصل تأرجحه بين العمل السياسي وكتابة الشعر طوال السنوات التالية التي كانت سنوات حبلى بالتناقضات، وبخاصة بالنسبة إليه هو شخصياً. فمرة نراه نائباً ومرة مطارداً في حياته ورزقه، وكانت خاتمته الحقيقية يوم أيد انقلاب رشيد عالي الكيلاني ليجد نفسه بعد هزيمة الانقلاب معزولاً سياسياً من جديد فلم يتوقف عن مهاجمة الإنجليز، وهو قضى آخر سنواته، وحتى رحيله عام 1945 فقيراً معزولاً
الحقيقة مهما كان الثمن
غير أنه مع ذلك لم يستسلم لسخط كثر عليه فهو الذي قال في نص كتبه عام 1933: “أصبحت لا أقيم للتاريخ وزناً، ولا أحسب له حساباً لأني رأيته بيت الكذب ومناخ الضلل ومتجشم أهواء الناس، إذا نظرت فيه كنت كأني منه في كثبان من رمال الأباطيل قد تغلغلت فيها ذرات ضئيلة من شذور الحقيقة فيتعسر أو يتعذر على المرء أن يستخلص من طيش أباطيله ذرات شذور الحقيقة. ولئن أرضيت الحقيقة بما أكتبه لها، لقد أسخطت الناس علي، ولكني لا يضرني سخطهم إذا أنا أرضيتها، كما لا ينفعهم رضاها إذا كانت على أبصارهم غشاوة من سخطهم علي، وعلى قلوبهم أكنة من بغضهم إياي (…) أما سخط الناس من أجل أنني خالفتهم لوفاق (الحقيقة) وصارحتهم في بيانها جرياً على خلاف ما جروا عليه من عادات سقيمة وتقاليد واهية، فلست مبالياً به ولا مكترثاً له…”
المصدر : اندبندنت عربية