أدب

القهوةُ التي لا تَبْرُدُ أبدًا

خاطرةٌ بقلمِ: عبدِالعزيزِ قاسم

ها هو الكوبُ -بِكُلِّ إغراءٍ- يَسْتَقِرُّ أمامي، ممتلئًا بسائلِ الحنينِ الدافئِ. وقبلَ أن تُلامِسَ حافَتُهُ شَفَتَيَّ؛ تَندفِعُ أمواجُ الذكرياتِ، تَدْهَمُني كمدٍّ حنونٍ، تَجُرْجِرُني بِرِفقٍ نحوَ مرافئِ الطفولةِ، كأنَّها تُريدُني أن أعيشَ تلكَ اللحظاتِ العزيزةَ مرَّةً أخرى، قبلَ أن يَغيبَ طَيفُها مع طَعمِ “اللوزِ” ونَكهةِ “القرفةِ” اللَّتَينِ تَرقُصانِ برشاقةٍ على سطحِه، كما تَرقُصُ الأحلامُ على شاطئِ القلبِ.

“القهوةُ الحلوةُ”، كما نُسَمِّيها في مَدينتِي الوادعةِ الطائفِ، أو “قهوةُ اللوزِ” بِلحنِ مكةَ العريقِ، أو “قهوةُ سِتِّي خديجةَ” بجمالِ المدينةِ المنورةِ العابقِ بالرُّوحانيةِ؛ ليست مُجَرَّدَ مشروبٍ بالنسبةِ لي. هي أكثرُ من ذلكَ بِكَثيرٍ؛ إنَّها حكايةٌ أَثِيرةٌ، غَزْلٌ مَحبُوكٌ بينَ أَمسياتٍ دافئةٍ وأرواحٍ بريئةٍ عاشت البَساطةَ، وتَرَكَت لنا واحاتٍ من الذكرياتِ.

أَتَأَمَّلُ هذا الكوبَ، فيتزاحَمُ أمامي وَجهُ والدتي المُضيءَ، ذلكَ الوجهُ الذي كانَ دومًا شمسَ أيَّاميَ المُشرقةَ. وتتداخلُ ذكرياتُ طفولتِي وأنا أركضُ بينَ لِداتي في الحارةِ الشعبيةِ. أرى نفسي طفلًا صغيرًا يركضُ بجذلٍ من مَدرستِهِ، يَحملُ شهادةَ نجاحِهِ بيدٍ مُرتجفةٍ، ويَصيحُ بأعلى صوتِهِ: “نااااااااجحٌ!” كأنَّه يُعلِنُ انتصارًا عظيمًا في مَعركةِ الحياةِ.

 

“القهوةُ الحلوةُ” كانت عُنوانًا للفرحِ والاحتفاءِ! أَتَذَكَّرُ كيف احتضنتني والدتي بكُلِّ فَخرٍ، تَطالعُ في الشهادةِ -وهيَ الأُمِّيَّةُ وقتَها- حُلمًا لها قد تحقَّقَ، وأرى في عينيْها نورًا يُشبهُ ضوءَ الفجرِ؛ ضوءٌ لا يَأتي إلا من قلبِ أُمٍّ تَهَبُ كُلَّ شيءٍ من أجلِ لحظةٍ كهذه. كانت مكافأتُها دائمًا لأبنائِها سخيةً، ومن ضِمنِها مكافأةٌ تُثيرُ حماستي: حَفلةُ “قهوةٍ حلوةٍ” لأبناءِ الحارةِ.

يَتَرَاصُّ الصِّبيةُ في غرفةِ الضيافةِ كأنَّهم جُنودٌ في حضرةِ مَلِكٍ، وجوهُهم متلهفةٌ صامتةٌ، وعُيونُهم تَتَقِدُ شوقًا. ولكأنَّ القهوةُ بالنسبةِ لهم مشروبًا سحريًّا يُرَوِّضُ شياطينَ الطفولةِ. وما إن تَصِلَ الأكوابُ إلى أيديهم، يُسرِعونَ بِارْتِشافِها رُغمَ سُخونتِها. ثُمَّ، وكأنَّهم تَحَرَّروا من قَيْدِ الأدبِ المُصطَنَعِ، يَندفِعونَ جريًا نحوَ الحارةِ، وصيَاحُهم يعلو، وضَحكاتُهم تَضُجُّ في الأرجاءِ، كأنَّما هذهِ الأكؤسُ أَطلَقَت أرواحَهُم من أَسْرِها، لِتملأَ أَمداءَ الحاراتِ بفرحٍ طُفُوليٍّ لا يَنتهي.

يَومانِ أو ثلاثةٌ أعيشُ خلالَها كَمَلِكٍ مُتَوَّجٍ في حارتِي الصغيرةِ. أَتيهُ -بدلٍّ- على أصدقائِي، مُتباهيًا بِحفلةِ القهوةِ التي نظَّمَتْها والدتِي، وبنجاحِي الذي كانَ مفتاحًا لهذا الاحتفالِ. ثُمَّ، كما هيَ سُنَّةُ الحياةِ، يَأتي الدَّورُ على صَبيٍّ آخرَ من أَسناني، ليَعتلي العرشَ بدَورِهِ، ونَستمِرُّ في تلكَ الرَّقصةِ الأبديَّةِ بينَ الفَرحِ العابرِ وتَوقِ الأملِ.

اليومَ، وفي شُرفةِ العُمرِ التي أَستَظِلُّ بها، أَجلِسُ وحيدًا في مساءٍ هادئٍ، مُمتنًّا لصديقٍ غالٍ لَمْ يَكنْ مُجَرَّدَ رفيقٍ، بل جسرًا بينِي وبينَ طفولتِي. يَعرفُ وَلَعي بِـ”القهوةِ الحلوةِ”، فيُفاجِئُني بها، يَسكُبُ مَحَبَّتَهم في كُلِّ كوبٍ. ومع كُلِّ رَشفةٍ، أعودُ إلى تِلكَ الأيَّامِ؛ إلى الحارةِ الشعبيةِ، وإلى وَجهِ والدتِي الذي باتَ ذاكرةً أحنُّ إليها كُلَّ يومٍ، وإلى وُجوهِ الصِّبيةِ الذين ضاعوا في زَحمةِ العُمرِ.

أَرتَشِفُ هذا السائلَ -المكتنز باللوز- وكأنَّني أقرأُ قَصيدةً أزليَّةً، خُطوطُها مكتوبةٌ بحروفِ الحنينِ، ومَعانيها مُترعةً بروحِ الامتنانِ. أُغمِضُ عينيَّ مع كُلِّ رَشفةٍ، وأُطلِقُ آهةً تَحمِلُني إلى الماضي. “القهوةُ الحلوةُ” ليست فقط طَعمًا عابرًا، إنَّها طفولةٌ عَذبةٌ، بكُلِّ تفاصيلِها ودَقائقِها. هي حياةٌ كاملةٌ أَحتَسِيها بِبُطءٍ، أَخشَى أن تَنتهيَ قبلَ أن أتشبَّعَ من حَلاوةِ ذِكرياتِها.

“القهوةُ الحلوةُ” التي بينَ يَدَيَّ الآنَ هي مرآةٌ، أرى فيها طفولتِي، وأَتَأَمَّلُ فيها دُروسًا عن الفَرحِ البسيطِ الذي يَجعلُ الحياةَ أكثرَ احتِمالًا. إنَّها حبلٌ يَصلُني بِذاكَ العالَمِ الذي تركتُهُ خَلفِي، لكنَّها تُعيدُني إليهِ في كُلِّ رَشفةٍ. هي ليست مُجَرَّدَ مشروبٍ، بل أُغنيَةُ حُبٍّ تُغنَّى لكُلِّ لحظةٍ عِشتُها في كَنفِ أُمِّي، بينَ دِفءِ حارتِي، وبَراءةِ أصدقائِي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق