الشعر والأدب العربي في العصر الحديث
الشِّعْرُ في العَصْرِ الحَديثِ
استطاعَ الشُّعَراءُ أن يُطَوِّعوا الشِّعْرَ لِمُوافَقةِ أغراضِهم، ومُناسَبةِ رُوحِ عَصْرِهم؛ فجاء الشِّعْرُ مَوضوعيًّا مُلائِمًا واقِعَ حَياتِهم، فخلا الشِّعْرُ مِن تلك الأنماطِ المَوروثةِ عن الشِّعْرِ الجاهِليِّ، كالوُقوفِ على الأطلالِ، وبُكاءِ الدِّيارِ، ونَحوِ ذلك، كما خَلَت أشعارُهم مِن كُلِّ ما انقَرَض وذَهَب، كرُكوبِ الدَّوابِّ، ووَصْفِ الدَّابَّةِ ورِحْلاتِ الصَّيدِ، وغَيرِ ذلك، كما اندَثَرت تلك الأغراضُ الشِّعْريَّةُ الَّتي لم يَعُدْ لها كَبيرُ قِيمةٍ، كالمَدْحِ والهِجاءِ؛ فلم يَعُدِ الشُّعَراءُ يَتَكَسَّبونَ بالمَديحِ، كما رأَوا فيه تعارُضًا مع شَخصيَّةِ الشَّاعِرِ الحَكيمِ المُرهَفِ المَشاعِرِ، بَيْدَ أنَّ بَعْضَ المَديحِ الصَّادِقِ -الَّذي يَنبُعُ مِن العاطِفةِ الصَّادِقةِ بدافِعِ الأُخُوَّةِ والصَّداقةِ ونَحوِ ذلك- قد بَقِيَ، لكِنْ لم يَعُدْ غَرَضًا مُهِمًّا كما كان مِن قَبْلُ.
كذلك فإنَّ الهِجاءَ الَّذي بَقِيَ مِن شِعْرِهم إلى الآنَ هو ذلك الهِجاءُ الَّذي اكتَسى بالصِّبغةِ السِّياسيَّةِ، فصار الشَّاعِرُ يَهْجو أعداءَ وَطَنِه في الدَّاخِلِ والخارِجِ.
بينما تطَوَّرت أغراضٌ أُخرى، كالغَزَلِ الَّذي خلا مِنَ المقَدِّماتِ الطَّلَلِيَّةِ، وإبرازِ السَّوْآتِ والعَوْراتِ، والحَديثِ عن المغامَراتِ اللَّيليَّةِ على نَهْجِ امْرِئِ القَيسِ، وصار الغَزَلُ مُعتَمِدًا على الوَصْفِ الحَيِّ، مُهتَمًّا بإبرازِ المعاني الَّتي جذَبَتْه لحُبِّ تلك المَرأةِ والتغَزُّلِ فيها.
أمَّا الرِّثاءُ فلم يَعُدْ مُجَرَّدَ بُكاءٍ على شَخْصٍ مات، وإنَّما صار إحياءً لأفكارِه، ودَعْوةً للتَّمَسُّكِ بآثارِه والسَّيرِ على نَهْجِه وخُطاه؛ إذ لم يَعُدِ الرِّثاءُ رِثاءَ أبٍ لابْنِه أو ابنٍ لأبيه، وإنَّما رِثاءُ الشَّاعِرِ لرُموزِ وَطَنِه مِنَ المُجاهِدينَ والعُلَماءِ والمُفَكِّرينَ.
وقد عَرَفَت أشعارُ الحَماسةِ لَوْنًا آخَرَ مِنَ الشِّعْرِ في العَصْرِ الحَديثِ؛ حيث كان أغلَبُ الشِّعْرِ مُتَوَجِّهًا إلى بَني وَطَنِه، فظَهَرَت الأشعارُ الوَطَنيَّةُ -التي هي صُورةٌ مُسْتَحْدَثةٌ عن القَبَليَّةِ- يَستَحِثُّ فيها الشَّاعِرُ قَوْمَه على بَذْلِ الجُهْدِ والتَّضحِيَةِ في سَبيلِ الوَطَنِ، آمِلًا أن يَستَقِلَّ وَطَنُه سياسِيًّا واقتِصاديًّا واجتِماعيًّا.
كما ظَهَر في الأُفُقِ شِعرٌ جَديدٌ يَدورُ حَولَ التَّأمُّلِ في النَّفْسِ البَشَريَّةِ، يَنظُرُ عُيوبَها ومَزاياها وخَفاياها، ويَتتَبَّعُ مَصيرَ الإنسانِ ومُستَقبَلَه.